قل ولا تقل / الحلقة الثالثة والسبعون


إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)

قل: وجدت الضالة وجداناً

ولا تقل: وجدت الضالة وجدا

ونأخذ مما كتب ثعلب في باب المصادر ما يلي: “تقول: وجدتُ في المال وجداً، ووجدت الضالة وجداناً، قال الراجز:

أنشد والباغي يحب الوجدان     قلائصاً مختلفات الألوان

ووجدت في الحزن وجداً، ووجدت على الرجل موجدة، وتقول في كله “يجِدُ”. وتقول: رجل جَواد بَيِّنُ الجُودِ، وشيء جيِّدٌ بيِّنُ الجُودة والجَوْدة، وفرسٌ جوادٌ بيِّنُ الجُودة والجَودة، وجادتِ السماءُ تجود جوداً. وتقول: وَجَبَ البيعُ يجبُ وجوباً وجبة، وكذلك الحقُّ، ووجَبَ القلبُ وجيباً، ووجبت الشمس وجوباً، ووجب الحائط وغيره وجْبَة إذا سقطَ. وتقول: حَسَبْتُ الحسابَ أحسُبُهُ حَسْباً وحِسْباناً، وحَسِبْتُ الشيء أحسِبُه محسْبَة وحُسباناً: ظَننتُه. وتقول: عَدَلَ عن الحق عدولاً إذا جار، وعَدَلَ عليهم عَدْلاً ومَعْدِلَة. وتقول: نَفَقَ البيعُ ينفقُ نفاقاً إذا كسد، ونَفَقَ الشيء ينفقُ نفْقَاً إذا نقصَ وانقطعَ، ونفقَت الدابة تنفَقُ نفوقاً (إذا ماتت). وتقول: غِرْت على أهلي أغارُ غَيْرَة، وغارَ الرجل فهو غائرٌ إذا أتى الغورَ، وغارَت الشمس غِياراً، وغارَ الماء يغورُ غوراً، وغارَ الرجل أهله يغيرهم غياراً وغيراً أذا مارهم، وأغارَ على العدة إغارة وغارة، وأغارَ الحبلَ إغارة إذا أحكم فتله.

وتقول: حلمتُ في النوم أحلمُ حلماً وأنا حالمٌ، وحلمت عن الرجلِ أحلم حلماً وأنا حليمٌ. وتقول: قَذَت عينه تَقْذي قَذيَاً إذا القت القذى، وقَذِيَت تَقْذي قَذى إذا صار فيها القذى، وأقْذيتها إقْذاءً إذا القيت فيها القذى، وقَذَّيتُها تَقْذيَة إذا أخرجت منها القذى. وتقول: رجلٌ بَطَّالٌ بيِّنُ البطالة وقد بطل، ورجلٌ بَطَلٌ بيِّنُ البطولة وقد بطل بُطُولةً، وبطُلَ الشيء يبطلُ بطلاً وبطلاناً من الباطل. وتقول: رجلٌ ذليلٌ بيِّنُ الذلِّ والذِّلّة والمَذَلَّة، ودابة ذلُولٌ بيِّنَة الذل. ورجلٌ نشْوانٌ من الشرابِ بيِّنُ النشوة، ورجلٌ نشيانٌ للخبرِ بيِّنُ النشوة إذا كان يتخَيَّرُ الأخبارَ. وتقول: قد شَفَّه المرضُ يشفُّه شَفَّاً إذا بلغ منه، وقد شَفَّ الثوبُ شُفُوفَاً إذا رَقَّ. ونَسَبَ الرجلَ الى آبائه وأجداده ينسبه نِسْبَة ونسباً، ونَسَبَ الشاعر بالمرأة ينسبُ بها نسيباً إذا ذكرها في شعره. وتقول: شَبَّ الصبي يَشِبُّ شَبابَاً وشَبيبَة وشَبَّ الفرسُ يشبُّ شباباً وشبيباً. وتقول: أحالَ الرجلُ في المكان إذا أقام فيه حَوْلاً، وأحال المنزل إحالة إذا أتي عليه حولٌ، وحال بيني وبينك الشيء يحول حئولاً وحولاً، وحال الرجلُ عن العهدِ حُئولاً، وحالت الناقة والنخلة حِيالاً إذا لم تحملا، وأحلت فلاناً على فلانٍ بالدين إحالة. وتقول: أوهَمتُ الشيء أوهَمُ إيهاماً إذا تركته كله، ووَهمتُ في الحساب أوهمُ وَهمْاً إذا غَلَطتُ فيه. وتقول: شَرَعتُ لكم في الديَّنِ شَرِيعَة، وأشرعت باباً الى الطريق إشراعاً، وشَرَعت الدواب في الماء تَشْرَعُ شُرُوعاً، وأنتم في هذا الأمر شَرْعٌ أي سواء.”

ونأخذ مما جاء في كتاب فائت صحيح ثعلب في الباب نفسه: “علَّمتُ الصبيّ تعليماً، وتعلمَ الصبيُّ تعلماً، التعليم للمعلم والتَّعلمُ للمتعلم. ومثله: التحويل للمُحَوِّل، والتَّحول للمُتَحَوِّل. تقول ما بهذا الشيء من الطِّيبِ ولا تقول: من الطِّيبَة، والطيبة مولدة. ويقال: مَهُنَ يَمهُنُ مَهانةً إذا كان مَهِيِنَاً ومَهَنَ يَمهَنُ مِهنَة ومَهْنَة فهو ماهنٌ من الخدمة. وحمَيْتُ المريضَ حمْوَة وحِمْيَة، وحَمَيْتُ أصحابي حِمايَة. والنَّجادَة: مصدر نَجُدَ الرجلُ نَجادَة وهو السريع الإجابة الى خيرٍ أو شَرّ، والنَّجْدَة: الفزعُ، يقال: نُجِدَ فهو منجُودٌ نجْدَة.”

قل: تُوفيّ فلان فهو متوفّى وتوفيت فهي متوفّأة

ولا تقل: فلان متوفٍ وفلانة متوفية

وكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن الله تعالى هو المتوفي بالياء لأنه يتوفى الأنفس وعلى السعة يتوفى الإنسان. وقد ورد في القرآن الكريم نسبة التوفي الى الملائكة بأمر من الله تعالى. قال تعالى: “إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي انفسهم قالوا فيم كنتم..” وقال تعالى “وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار”.

وجاء في ملحق مفردات أوهام الخواص: ويقولون لمن أصابه الموت: المتوفي (بالياء المعجمة)، فيوهمون، لأن المتوفي هو الله سبحانه وتعالى، وهو اسم الفاعل من غير الثلاثي ومنه قوله تعالى في التنزيل الحكيم “الله يتوفى الأنفس حين موتها” أي يستوفي عدد آجالهم في الدنيا. أما الميت الذي توفاه الله، أي أماته فيقال له المتوفى (بالألف المقصورة) وهو اسم المفعول من غير الثلاثي. ومما يذكر في هذا السياق ما رواه أحد اللغويين، فقال: مررت في طريقي فرأيت جنازة تشيع، وسمعت رجلا يسأل: من المتوفي (بالياء) فقلت له: الله سبحانه وتعالى، فضربت حتى كدت أموت. ومنه قول منظور الوبري:

إن بني الأدرد ليسوا من أحد ** ولا توفاهم قريش في العدد

ونظيره قوله تعالى: “قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم” وهو من توفية العدد، وليس من الوفاة، أي يقبض أرواحكم أجمعين بأمر ربه، فلا ينقص واحدا منكم، كأن تقول: توفيت من فلان مالي واستوفيته، أي لم يبق لي عليه شيء منه. ويقال: ووفي الرجل، نحو ووري، إذا أصابته الوفاة.
وتوفاه الله، إذا قبض نفسه، ومنه قول عبيد الله بن قيس الرقيات:

ليت القيامة يوم ووفي مصعب ** قامت على مضر وحق قيامها

أي: توفاه الله.

قل: كان صوته مُدَوّياً وقد دَوّى صوته يُدوّي تدْوية

ولا تقل: كان صوته داوياُ ولا دوى صوته يَدْوي

وكتب مصطفى جواد: “وذلك لأن الفعل دَوّى يُدَوّي مأخوذ من الدّوي وهو الصوت الشديد كصوت النحل والقول الأول هو المشهور وليس لهذا المهنى فعل ثلاثي. جاء في لسان العرب “والدَّوِيُّ: الصَّوْتُ، وخص بعضهم به صوتَ الرَّعْد، وقد دَوَّى. التهذيب: وقد دَوَّى الصوتُ يُدَوِّي تَدْوِيَةً. ودَوِيُّ الريحِ: حَفِيفُها، وكذلك دَوِيُّ النَّحْلِ. ويقال: دَوَّى الفَحْل تَدْوِيَةً، وذلك إِذا سمعت لهَدِيره دَوِيّاً.” وللمدوي معان أخرى لا صلة لها بالصوت.

وفشا هذا الغلط – أعني استعمال “دَوَى يدوي” – هو أن الفعل “دَوّى يُدوّي” يكتب مثل “دَوَى يَدْوي” إذا كان غير مشكول فقرأه بعضهم دَوَى يَدْوي واشتقوا منه اسم الفاعل هو “الداوي” الذي لا يجوز سماعاً ولا قياساً.

فقل: الصوت المُدوّي وقد دَوّى تدوية

ولا تقل: الداوي ولا دَوَى يَدْوي.”

قل: هو مدمن هذا الأمر

ولا تقل: هو مدمن على هذا الأمر

وكتب اليازجي: “ويقولون هو مدمن على هذا الأمر أي مواظب عليه مديم لفعله، والصواب ترك الجر لأن هذا الحرف يتعدى بنفسه”.

قل: تلافا الخلل والفساد

ولا تقل: دارك الخلل والفساد

وكتب اليازجي: “ويقولون دارك الخلل والفساد أي تلافاه وإنما يقال في هذا المعنى تدارك لأن المداركة في اللغة بمعنى المتابعة يقال دارك عليه الضرب إذا تابعه وجعل بعضه يلي بعضاً فهو عكس مقصودهم كما ترى”.

قل: وقع في المَرْقِ ذبابٌ

ولا تقل: وقع في المَرْقِ ذُبَابة

وكتب إبن السكيت: وقع في المَرْقِ ذبابٌ ولا تقل ذُبَابة، والجمع القليل أَذِبَّة، والكثير الذِّبَّان،

وكتب الزبيدي: “ويقولون لواحد (الِّذبَّان) (ذِبابة)، والصواب “ذُباب” ثم يجمع الذُّباب على “أذِبَّة” في أدنى عدده و “ذِبَّانا” للكثير. وأنشدوا لمزاحم:

هِجانٌ كوَقْفِ العاجِ مِصباحُ قَفْرِه     مَصُوغٌ لِذِّبانِ الفَلاةِ يَذودُها

وغلطهم هذا كغلطهم في الصئبان كما تقدم ذكره. وزعم الأصمعي أن (ذا الرمة) أخطأ في قوله:

لأُدمانة من وَحْش بينَ سُوَيقَةٍ     وبين الجبالِ العُفْرِ ذاتِ السَّلاسِلِ

وقال” الأُدمان مثل الحمران والسُّودان جماعة الأحمر والأسود والآدم ولا يجوز “أدمانة” للواحد، وهذا نحو ما ذكرناه في “ذِبَّانة” و “صِئبانَة”.

– كتب المقدسي: وكذلك يقولون لمَنْ ضرَبْتَ أُذُنَهُ فصُمَّتْ، بضم الصادِ. وصوابُهُ: فَصَمَّت، بفتحِ الصادِ.

قل: لا يمكن تصور هذا الوضع ولو بمجرد التفكير

ولا تقل: لا يمكن تصورُ – ولو بمجرد التفكير – هذا الوضع

وكتب عبد الهادي بوطالب: “توضع الجملة المعترَضة في غير موضعها فتفصل خطأ بين المضاف والمضاف إليه ويقال مثلا : “لا يمكن تصورُ – ولو بمجرد التفكير – هذا الوضع”، إذ نلاحظ في هذا التعبير الخاطئ أن كلمة تصوُّرُ بقيت بدون تنوين، لأن المراد الإضافة. وجاءت إثرها الجملة الاعتراضية (ولو بمجرد التفكير). ثم تلاهما المضاف إليه (هذا الوضع) الواقع في محل جر لأن المضاف إليه إما مجرور أو في محل جر. وهذا تحريف واضح للقواعد النحوية. وصواب العبارة أن يقال: “لا يمكن تصور هذا الوضع ولو بمجرد التفكير”.

قل: لا على مستوى الواقع ولا على مستوى التطبيق وهذا هو الأهم

ولا تقل: لا على مستوى الواقع ولا على – وهذا هو الأهم – مستوى التطبيق

وكتب عبد الهادي بوطالب: “وتأتي الجملة الاعتراضية في غير موضعها خطأ أيضا حينما تفصل بين حرف الجر والمجرور. فيقال مثلا : “لا على مستوى الواقع ولا على – وهذا هو الأهم – مستوى التطبيق”.

والصواب أن تأتي هذه الجملة في النهاية وليس في الوسط حتى لا يُفصل بين حرف الجر والمجرور، ويقال إذن: لا على مستوى الواقع ولا على مستوى التطبيق وهذا (أو هذا الأخير) هو الأهم. كما يقال أيضاً: “وجهت التشريفات (أو المراسم) دعوةً – هذه المرة – من الملك أو الرئيس نفسِه” فهنا يحسن اجتناب الفصل وتأخير “هذه المرة” إلى ما بعد عبارة “الملك (أو الرئيس) نفسه”.

قل: بينا زيد قام جاء عمرو

ولا تقل: بينا زيد قام إذ جاء عمرو

وكتب الحريري: “ويقولون: بينا زيد قام إذ جاء عمرو، فيتلقون بينا بإذ، والمسموع عن العرب: بينا زيد قام جاء عمرو، بلا إذ لأن المعنى فيه: بين أثناء الزمان جاء عمرو، وعليه قول أبي ذؤيب:

بينا تعانقه الكماة وروغه ** يوما أتيح له جريء سلفع

فقال: أتيح، ولم يقل: إذ أتيح، وهذا البيت ينشد بجر تعانقه ورفعه، فمن جره جعل الألف في بينا ملتحقة لإشباع الفتحة كالألف في قول الشاعر:

فأنت من الغواية حين تدعى ** ومن ذم الرجال بمنتزاح

لأن الأصل فيها بين، وجر تعانقه على الإضافة، ومن رفع رفعه على الابتداء، وجعل الألف زيادة ألحقت ببين لتوقع بعدها الجملة، كما زيدت ما في بينما لهذه العلة. وذكر أبو محمد بن قتيبة قال: سألت الرياشي عن هذه المسألة، فقال: إذا ولي لفظة بين الاسم العلم رفعت فقلت: بينا زيد قام جاء عمرو، وإن وليها المصدر فالأجود الجر كهذه المسألة.

وحكى أبو القاسم الآمدي في أماليه عن أبي عثمان المازني قال: حضرت أنا ويعقوب بن السكيت مجلس محمد بن عبد الملك الزيات، فأفضنا في شجون الحديث، إلى أن قلت: كان الأصمعي يقول: بينا أنا جالس إذ جاء عمرو، محال. فقال ابن السكيت: أهذا كلام الناس قال: فأخذت في مناظرته عليه وإيضاح المعنى له، فقال لي محمد ابن عبد الملك: دعني حتى أبين له ما اشتبه عليه، ثم التفت إليه وقال له: ما معنى بينا فقال: حين، قال: أفيجوز أن يقال: حين جلس زيد إذ جاء عمرو فسكت.

فهذا حكم بينا، وأما بينما فأصلها أيضا بين، فزيدت عليه ما لتؤذن بأنها خرجت عن بابها بإضافة ما إليها. وقد جاءت في الكلام تارة غير متلقاة بإذ مثل بينا واستعملت تارة متلقاة بإذ وإذا اللذين للمفاجأة، كما قال الشاعر:
فبينما العسر إذ دارت مياسير **

وكقوله في هذه القطعة:

وبينما المرء في الأحياء مغتبط ** إذ صار في الرمس تعفوه الأعاصير

فتلقى هذا الشاعر بينما في البيت الأول بإذ وفي الثاني بإذا، وليس ببدع أن يتغير حكم بين بضم ما إليه لأن التركيب يزيل الأشياء عن أصولها ويحيلها عن أوضاعها ورسومها ألا ترى أن رب لا تدخل إلا على الاسم، فإذا اتصلت بها ما، غيرت حكمها وأولتها الفعل كما جاء في القرآن: “ربما يود الذين كفروا”، وكذلك حرف لم فإذا زيدت عليها ما – وهي أيضا حرف – صارت لما اسما في بعض المواطن بمعنى حين ووليها الفعل الماضي نحو قوله تعالى: “ولما جاءت رسلنا لوطا” وهكذا قل وطال لا يجوز أن يليهما الفعل، فإن وصلا بما وليهما الفعل، كقولك: طالما زرتك وقلما هجرتك.”

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

15 حزيران 2016

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image