قل ولا تقل / الحلقة الرابعة والسبعون

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (م ج)

 

قل: أمَضَّني الجرح والقول

ولا تقل: مَضَّني الجرح والقول

ونأخذ مما كتب ثعلب في باب “أفعل” ما يلي: “تقول أشكلَ عليَّ الأمر فهو مشكل. وأمَرَّ الشيء فهو مُمِرّ، إذا صار مُرَّاً. وأغلقتُ البابَ فهو مُغْلَقٌ (ليس مغلوقاً). وأقفلته فهو مُقفَل. وأعتقتُ الغلامَ فهو مُعتَقٌ وعتيقٌ، وعتق هو إذا صار حُرَّاً. وأبغَضْتُ الشيءَ أبغُضُه وأنا مُبغِضُه. وأقْفَلَت الجند من مَبَعثهم وقَفَلوا هم إذا رجعوا من سفرهم. وأغليَتُ الماء فهو مُغْلى. وأكريتُ الدارَ فهي مُكراة والبيت مُكرى. وأغفيتُ من النوم فأنا أُغفي إغفاءً.

قل: يَشْهِقُ الرجلُ إذا تردد البكاء في صدره

ولا تقل: يَشْهَقُ الرجلُ إذا تردد البكاء في صدره

ونأخذ مما جاء في كتاب فائت صحيح ثعلب في “باب فَعَلَ يَفعِلُ” ما يلي: “أبَقَ المملوك يأبِقُ، وشَهَقَ يَشْهِقُ، وذَرَفَت عينه تَذْرِفُ، وشَرَطْتُ أشْرِطُ، وشَدَّ عليه بسيفه يَشِدُّ، وخَمَرْتً العجين أخْمِرُه، وغَوَى الرجلُ يَغْوِي.”

قل: تواصلت اليك كتبي يوميا

ولا تقل: تواترت اليك كتبي يومياً

وكتب البغدادي في ذيل فصيح ثعلب: “وتقول: تَواتَرت اليك كتبي بمعنى تتابعت لا بمعنى اتصلت. قال اللحياني: لا تكون متَواتِرَة حتى يكون بين الواحد والواحد فترة، وإلا فهي مواصلة ومُدارِكَة. ومواترة الصوم خلاف المواصلة لأن المواترة أن يتخلل بين أيام الصوم أيام فطر والمواصلة أن لا يتخلل الصوم فطرٌ، لأن أصله من الوِترِ، وكذلك وأترت الكتب فتواترت أي جاءت بعضُها في إثر بعض وتواتروا من غير انقطاع.”

 

قل: الخوف لا يمنع الموت ولكنه يمنع الحياة

ولا تقل:الخوف لا يمنع من الموت ولكنه يمنع من الحياة (نجيب محفوظ)

إن نجيب محفوط أديب عربي يقول عنه الكثيرون أنه أجاد في أدبه حتى منح جائزة نوبل في الآداب، وإن كنت أحسب أنه منحها لأسباب سياسية أكثر منها أدبية. ويتجلى حال العربية اليوم حين يعجز أديب يقتدي به الكثيرون أن يميز بين الفعل المتعدي وبين الفعل اللازم.

قال عز من قائل ” وما منع الناس ان يؤمنوا اذ جاءهم الهدى الا ان قالوا ابعث الله بشرا رسولا ” وقال سبحانه “ويمنعون الماعون “.

وجاء في اللسان: ” المَنْعُ: أَن تَحُولَ بين الرجل وبين الشيء الذي يريده، وهو خلافُ الإِعْطاءِ، ويقال: هو تحجيرُ الشيء، مَنَعَه يَمْنَعُه مَنْعاً ومَنَّعَه”.

وهكذا يظهر مما جاء في الكتاب الكريم وفي معجمات العربية أن الفعل “منع” فعل يتعدى بنفسه وهو الأصل في العربية حيث إن التعدي بالحرف ثانوي على الأصل. واللسان العربي بطبيعته يميل للأصل حتى يجد ما يمنعه ذلك. فالفصيح أن يستعمل الفعل “منع” متعدياً بنفسه فيقال “يمنع الشيء” ولا يقال “يمنع من الشيء”.

قل: اجتمع أمس فلان مع الرئيس فلان

ولا تقل: يجتمع فلان مع الرئيس أمس

كتب مصطفى جواد: “لأن الإجتماع قد جرى أمس فينبغي أن يستعمل له الفعل الماضي وهو الزمان الحقيقي مستعملاً لفعل قد جرى بالتحقيق فلا يجوز أن يصرف الى وجه آخر، ثم أن الغالب في استعمال الأفعال في غير أوقاتها هو اتخاذ الماضي بدلاً من الحاضر والمستقبل وثوقاً بوجوب حدوثه، كما هو معروف في القرآن الكريم كقوله تعالى “وجاء ربك والملك صفاً صفا” وقوله “وعرضوا على ربك صفاً لقد جئتمونا كما خلقاناكم أول مرة بل زعمتم ألن نجعل لكم موعدا”.

وفي العربية مضارع يعرف بمضارع القصة فينبغي استعماله على وجهه الصحيح، كقوله تعالى “وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه وكان في معزل”، وهو حكاية الحال في الماضي. وكقول العرب “هجم الفارس على قرنه ويضربه على قرنه”. أما قولهم “يجتمع فلان مع الرئيس أمس” فليس من هذا وهو خطأ والصواب “اجتمع” وما آفة الأخبار إلا رواتها.”

قل: أكلنا من حَلْوائِهم

ولا تقل: أكلنا من حلوَتِهم

وكتب الزبيدي: “ويقولون للذي عُقِد من العسل أو السَّكر أو الرُّبَ “حَلْوَة” والصواب “حَلْواء” بالمد. وهو اسم لكل ما يؤكل من الطعام حُلواً. والعامة لا تعنى به إلا النَّاطف خاصة. وقد يستعار لغير المأكول، وقال الكميت:

فمِنْ أينَ للأعداءِ حَلْواءَ مُلكِكُمْ          ونحنُ إليكم كالمُؤلَّبَة العُجُلْ

العُجُل جمع عَجُول وهي الفاقِد لولدها، وفي بعض الخبر أن عبد الله بن شبرمة عاتبه ابنه على إتيان السلطان، فقال “يا بني إن أباكَ أكل من حلوائهم وحَطَّ في أهوائهم”، يريد أصاب من دنياهم.

قل: هو كافر بالعُرُش

ولا تقل: هو كافر بالعَرْش

كتب البستي: “وفي حديثِ سَعْد بن أبي وَقّاص حينِ قِيلَ له : “إنّ فُلاناً يَنْهَى عن المُتْعَةِ. فقالَ: تَمَتَعْنا مع رسولِ اللهِ، صلّى الله عليه وسلّم، وفُلانٌ كافِرٌ بالعُرُشِ . يريدُ بالعُرُش بيوتَ مكّةَ ، جمعُ عَريش. يريدُ : أَنَّه كافِرٌ، وهو مقيمٌ بمكّةَ. وبعضهُم يَرْوِيه: وهو كافِرٌ بالعَرْشِ، وهو غَلَطٌ.”انتهى

وجاء في القاموس: “وقولُ سَعْدٍ: وفلانٌ كافِرٌ بالعُرُشِ، يعني مُعَاوِيَةَ مُقيمٌ بمكةَ.”

وكتب ابن منظور في اللسان: ” قال ابن سيده: وعندي أَن عُروشاً جمع عَرْش، وعُرُشاً جمعُ عَرِيش وليس جمعَ عَرْشٍ، لأَن باب فَعْل وفُعُل كرَهْن ورُهُن وسَحْل وسُحُل.”

قل: لعله يفعل

ولا تقل: لعله فعل

وكتب الحريري: “ويقولون: لعله ندم ولعله قدم، فيلفظون بما يشتمل على المناقضة وينبيء عن المعارضة، ووجه الكلام أن يقال: لعله يفعل أو لعله لا يفعل لأن معنى لعل التوقع لمرجو أو لمخوف، والتوقع إنما يكون لما يتجدد ويتولد لا لما انقضى وتصرم. فإذا قلت: خرج، فقد أخبرت عما قضي الأمر فيه، واستحال معنى التوقع له، فلهذا لم يجز دخول لعل عليه.”

قل: هو يحْدُرُ في قراءته

ولا تقل: هو يَهْدُرُ في قراءته

كتب المقدسي: “ويقولُ بعضُهم: يَهْدرُ في قراءَتِه. وصوابُهُ: يَحْدُرُ في قراءتِهِ.”

قل: تفوهت بكذا

ولا تقل: تفممت بكذا

كتب الحريري: ويقولون في جمع فم أفمام وهو من أوضح الأوهام، والصواب أن يقال: أفواه، كما قال سبحانه: “يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم”، وذلك أن الأصل في فم فوه على وزن سوط، فحذفت الهاء تخفيفا لشبهها بحروف اللين فبقي الاسم على حرفين: الثاني منهما حرف لين، فلم يروا إيقاع الإعراب عليه لئلا تثقل اللفظة ولم يروا حذفة لئلا يجحفوا به، فأبدلوا من الواو ميما، فقالوا: فم لأن مخرجهما من الشفة. والدليل على أن الأصل في فم الواو قولهم: تفوهت بكذا، ورجل أفوه، ولم يقولوا تفممت ولا رجل أفم وأكثر ما يستعمل بالميم عند الإفراد، فأما قول العجاج:

خالط من سلمى خياشيم وفا **

فقيل: إنه أراد وفاها، فحذف المضاف إليه.

وقيل: عنى وفما.

وقولهم في تصغيره فويه، لأن التصغير يرد الأشياء إلى أصولها كما يقال في تصغير حر حريح لأن أصله حرح، ويقال في تصغير الست من العدد: سديسة، لأن أصلها سدس لاشتقاقه من التسديس كما أن اشتقاق خمسة من التخميس وألحقت الهاء بها عند التصغير، لأنها من المؤنث الثلاثي.ثم إن العرب قصرت استعمال فم عند إفراده، واختارت رده إلى أصله عند إضافته، فقالوا عند الإضافة: نطق فوه، وقبل فاه، وأدخل إصبعه في فيه، كما قال علي كرم الله وجهه:

هذا جناي وخياره فيه ** إذ كل جان يده لفيه

إلا أنه قد سمع عنهم الإضافة إلى الميم كقول الراجز:

يصبح عطشان وفي البحر فمه **

وأما قول الفرزدق:

هما نفثا في في من فمويهما ** على النابح العاوي أشد رجام

فإنه جمع للضرورة بين العوض والمعوض عنه كما فعل الراجز في قوله:
إن إذا ما حدث ألما ** أقول يا اللهم يا اللهم

فجمع بين ياء النداء والميم المشددة التي هي عند الخليل بدل من ياء المناداة.


قل: فلان من ذوي المجد

ولا تقل: فلان من ذوي الأمجاد

وكتب اليازجي: “ويقولون فلان من ذوي الأمجاد يريدون جمع مجد ولم يسمع للمجد جمع على أمجاد ولا غيره لأنه مصدر في الأصل. وما سمع في كلامهم لفظ أمجاد فإنما هو جمع مجيد على حد شريف واشراف ويتيم وايتام.”انتهى

وجاء في لسان العرب: “وفي حديث عليّ، رضي الله عنه: أَمَّا نحن بنو هاشم فأَنجادٌ أَمْجادٌ أَي شِراف كِرام، جمع مجِيد أَو ماجد كأَشهاد في شَهيد أَو شاهد.”

وكتب الجوهري في الصحاح: “المَجْدُ: الكرم… والمَجيدُ: الكريم…. قال ابن السكيت: الشرف والمجد يكونان بالآباء. يقال: رجلٌ شريفٌ ماجدٌ: له آباءٌ متقدِّمون في الشرف. قال: والحسب والكرم يكونان في الرجل وإن لم يكن له آباءٌ لهم شرف.”

قل: جاءوا أُحادَ

ولا تقل: جاءوا اَحاداً

وكتب عبد الهادي بوطالب: يُنطَق بهما بفتح الهمزة والصواب هو ضمها، أي أُحادي وأُحاديَّة. كما تُضَم الهمزة في ميزان فُعالي وفُعالية، فنقول ثُنائي، وثُنائيَّة، وثُلاثي، وثُلاثية، ورُباعي، وخُماسي، وسُداسي، وسُباعي، وثُماني، وتُساعي، وعُشاري. والمؤنث من هذه الألفاظ يأتي على وزن فُعالية.

نقول ثُنائية الإشكالية، أي ثُنائية ذات شِقَّيْن. والمخَطَّط الثُّنائي أي مُخطَّط سنتين. والمخطط الثُّلاثي، أي لثلاث سنوات. والخطة الرُّباعية، أي خطة أربع سنوات. وهكذا دَوالَيْك إلى العُشاري والعُشارية. وكلها تضم همزتها، فلِم نقول إذن الأحادية بفتح الهمزة ؟

لذا علينا أن نقول : أُحاديَّة القطبية العالمية بضم الهمزة ولا يجوز فتحها. ونقول أُحاديُّ اللغة أي ذو لغة واحدة. والطريق الأُحاديُّ أي المنفرد أو طريق ذو مسلك واحد. والخط الحديديُّ الأُحادي، أي الخط المنفرد. كما نقول الأُحاديَّة هي نقيض التعددية. والياء التي تُختَم بها هذه الكلمة هي ياء النسبة.

وبدون نسبة بالياء يصبح الأُحاديّ أُحاد. ونقول جاءوا أُحادَ أي واحدا بعد الآخر. وتُمنع صيغة فُعال هذه من الصرف فلا يجوز أن نقول جاءوا أحادًا بالتنوين.

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

11 تموز 2016

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image