قل ولا تقل / الحلقة الثامنة والثلاثون بعد المائة

إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

إن اللغة العربية هي أعظم تراث للعرب وأقدسه وأنفسه، فمن استهان بها فكأنما استهان بالأمة العربية نفسها وذلك ذنب عظيم ووهم جسيم أليم. (مصطفى جواد)

فإن من أحب الله أحب رسوله، ومن أحب النبي العربي أحب العرب، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي بها نزل أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب. ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته اليها. (الثعالبي)

قل: شارك في حركة غوغائية

ولا تقل: شارك في حركة ديماغوغية

إن من مظاهر التغرب الفكري بين المتعلمين والذي يكشف جهلا سائدا، وإن ظن أولاء أنه يبين سعة اطلاعهم، هو استعمال المتحدث أو الكاتب لألفاظ أوربية هي في الأغلب مشتقة من جذور يونانية بشكل مباشر أو من كلمات لاتينية اشتقت هي بدورها من اليونانية القديمة (الإغريقية). ولهذا الإستعمال السائد بين المتعلمين سببان، فإما أن يكون المتحدث أو الكاتب يعرف استعمال الكلمة باللغة التي نقل عنها لكنه لا يحسن، بسبب جهله بلسانه العربي، أن يأتي بكلمة عربية تعبر عنها. وإما لأن المتحدث أو الكاتب لا يعرف معنى الكلمة الغريبة فيأتي بها كما مرت كي يبدو للقارئ أو المستمع في أنه متعلم بدرجة عالية وأنه قرأ الفكر الأوربي المتقدم واطلع عليه وفهمه!

ومن بين هذه الكلمات ديماغوغيةوالفاعل منها ديماغوغ“! فما اصل هذه الكلمة؟

إن لغات غرب أوربا بشكل عام هي لغات جامدة غير اشتقاقية. فإذا قامت حاجة لكلمة جديدة أو مصطلح علمي فإنها تلجأ الى اللاتينية أو الإغريقية للبحث عن جذر يصلح تبنيه ليطابق الحاجة. ولا يقتضي في هذه الإستعارة أن تكون الكلمة مطابقة للمعنى المرجو إنما يكفي أن تدل على شيء قريب ويجري بعد ذلك قبولها وتعميمها لتدل على الهدف المطلوب منها.

وكلمة ديماغوغمشتقة من كلمتين يونانيتين تعنيان قائد جمهوروقد استعلمت في اليونان أول الأمر دون أن يكون لها مدلول سيء. لكنها سرعان ما تحولت لتعني شيئا محددا في أن تعبر عن قائد سياسي يجيد اللعب بالخطابة وإثارة عواطف الناس وغرائزهم العرقية أو الدينية ضد النخبة الحاكمة، يعدهم بكل شيء ما دام ذلك في خدمة هدفه. وشواهد هذه الظاهرة في التأريخ أكبر من أن تحصى.

والعرب لا يختلفون عن بقية أهل الأرض في ان هذا يقع بينهم، لكن الفرق بين العربي والإنكليزي على سبيل المثال هو، انه حين يحتاج الإنكليزي أن يلجأ لليونانية كي يصف هذا الحال، فإن العربي لا يحتاج إلا لسانه ليعبر عنه.

فقد عرفت العربية الغوغاء على أنها صغار الجراد فاستعملت الكلمة لتمثل الرعاع من الناس لكثرة لغطهم وضوضائهم كما هو حال صغار الجراد. فالغوغائية هي لغط وصخب وضوضاء وهي تماما ما تريده الديماغوغيةفي وصف حال القوم الذين يلتفون حول القائد المخادع.

فلو استبدلت كلمة غوغائيةبكلمة ديماغوغية، لما وجد القارئ أو المستمع العربي أية صعوبة في فهم المراد.

فقل: غوغائية

ولا تقل: ديماغوغية

قل: دَعِ الثوبَ حتى يَجِفَّ

ولا تقل: دَعِ الثوبَ حتى يَجُفَّ

كتب الكسائي: “وتقول دَعِ الثوبَ حتى يَجِفَّ بكسر الجيم“.

قل: الخضاب يَنمي

ولا تقل: الخضاب يَنمو

كتب الكسائي: ” ويقال المال والنبات ينمو، الخضاب وأشباههُ يَنمي. قال الشاعر:

يا حَبَّ ليلى لا تَغَيَّ وازْدَدِ

وانمِ كما يَنْمِي الخِضَابُ في اليَدِ

وأضاف المحقق: “هذا يخالف ما روي عن الكسائي في العربي المصنف ونقله عنه في المزهر من قوله: قال الكسائي: نما الشيء ينمي بالياء لا غير. قال ولم أسمعه الا بالواو من أخوين من بني سليم: ينمو، ثم سألت عنه بني سليم فلم يعرفوه بالواو. انظر كذلك الصحاح (نما) ولسان العرب (نما)”.

قل: لقيتهما

ولا تقل: لقيتهما اثْنَيْهما

كتب الصفدي: “يقولون: لقيتهما اثْنَيْهما، مقايسة على قولهم: لقيتهم ثلاثتهم، فيوهمون في الكلام والمقايسة وهمين، لأن العرب تقول في الاثنين لقيتهما، من غير أن تفسّر الضمير، وتقول رأيتهم ثلاثتهم، فتفسر الضمير، فإن أرادت أن تخبر عن أفرادهما باللقاء قالت: لقيتهما وحدهما، والفرق بين الموضعين أن الضمير في لقيتهما مثنى، وهو لا تختلف عدّتُه، وفي ثلاثتهم وخمستهم مبهم غير محصور، فاحتيج الى تفسيره.

حدثنا عبد الله بن المُعتزّ، قال: حدثني محمد بن هُبَيْرَة صَعوداء قال حضرت أنا وأبو مُضَر مجلس محمد بن حبيب وهو يملي:  

 

إني إذا ما الليلُ كان ليلين

ولجلج الحادي لسانا اثنين

لم تُلفِني الثالث بين العِدْلَين

 

فقال لي: أبو مضر: غيّره والله، فسئل عن تفسير لسانا اثنين فلم يأتِ بشيء، فقال أبو مضر: أنشدنيه الناس:

 

ولجلج الحادي لسانا ثنيين

 

أي ثنى لسانه من شدة النعاس ولجلج.


قال صعوداء: وصدق أبو مضر، وقد قال ذو الرمة:

والنوم يسْتَلِبُ العَصا من رَبِّها

ويلوكُ ثِنْيَ لِسانِه المنطيق

وكتب أبو الثناء الآلوسي معلقاً: “ويقولون اثنيهما تفسيرًا لضمير التثنية في نحو لقيتها اثنيهما قياسًا على نحو ثلاثتهم تفسيرًا لضمير الجمع نحو لقيتهم ثلاثتهم وهو غلط، والصواب أن لا يؤتى بها بعد ضمير التثنية؛ لكونه نصًا في الاثنين، بخلاف ضمير الجمع فإنهُ ليس نصًا في عدد، فيكون لذكر العدد بعده فائدة، وبخلاف الاسم الظاهر المثنى نحو الرجلان فإنهُ ظاهر في الاثنين وليس بنص، إذ قد يراد بهِ المتعدد مطلقًا، كما قالوا في قولهِ تعالى: فـارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ [الملك:4]، لمكان يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِير [الملك:4]، وعليهِ فلا مانع من جاءَ الزيدان اثناهما، واستشكل على ذلك في قولهِ تعالى:فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ [النساء:176]، بأن من شأن الخبر(1) أن لا يفيد عين ما أفاده المبتدأ، وهذا على ما ذكر عينهُ، وأجاب الأخفش وقد سأله عنهُ مروان بن سعيد المهلبي بما حاصلهُ أن الإخبار بالإثنينية هنا يفيد أن الحكم معلق بمجرد التعدد لا بغيره من الأوصاف ككونهما شقيقتين أو لأب أو مختلفتين أو صغيرتين أو كبيرتين أو صالحتين أو طالحتين إلى غير ذلك، وهذا غير ما أفاده المبتدأ. ورده أبو حيان بأن ضمير التثنية دل على ذلك من غير قيد أصلًا، فلا يندفع السؤال وأجيب عنهُ بأن الضمير قائم مقام معرَّف بأل وتقديره: فإن كانت الأختان، والمعرف يوهم التعيين، فالخبر مزيل لذلك الإيهام. قيل وهذا ما عناه الأخفش لاسيما وقد قيل أن الآية نزلت في معين، وإن كان خصوص السبب لا يخصص الأحكام لكنهُ لا يدفع الإيهام، وقال الزمخشري: الأصل فإن كان من يرث بالأخوة اثنين وإن كان من يرث ذكورًا وإناثًا فيما بعد، وإنما قيل كانتا وكانوا لمطابقة الخبر، كما قيل من كانت أمك، ورده أبو حيان أيضًا في البحر بأنهُ غير صحيح، وليس نظير المثال؛ لأنهُ صرح فيهِ بمن، ولهُ لفظ ومعنى فمن أنث راعى المعنى وهو الأم ولم يؤنث لمراعاة الخبر، ومدلول الخبر فيهِ مخالف لمدلول الاسم بخلاف ما نحن فيهِ فإنهما فيهِ واحد، وذكر لتخريج الآية وجهين، الأول:

إن ضمير كانتا لا يعود على الأختين بل على الوارثين، وثَم: صفة محذوفة لاثنتين. والصفة مع الموصوف هو الخبر والتقدير. فإن كانتا أي الوارثتان اثنتين من الأخوات فيفيد إذ ذاك الخبر ما لا يفيده الاسم وحذف الصفة لفهم المعنى جائز، والثاني أن يكون الضمير عائدًا على الأختين كما ذكروا ويكون خبر كان محذوفًا لدلالة المعنى عليه وإن كان حذفه قليلًا، ويكون اثنتين حالًا مؤكدة والتقدير فإن كانتا؛ أي: الأختان له، أي: للمرء الهالك. ويدل على حذف له وله أخت.

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

عبد الحق العاني

15 كانون الأول 2021

www.haqalani.com

1(?) قوله: (من شأن الخبرإلخ) أطلق المبتدأ على اسم كان، والخبر على خبرها باعتبار الأصل والمشاركة في أغلب الأحكام، اهـ.

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image