نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الرابع والعشرون

إلى أين: أخرجوا حلف الأطلسي من أرض العرب -3

كنت قد وعدت في الجزء السابق أن أتحدث عن السبل المقترحة للعمل على إخراج حلف الأطلسي من أرض العرب.

لست، كما يعرفني من يعرفني شخصيا أو عن طريق ما أكتب، ممن يمكن تسميته بالمتفائل. لذا فإني حين أقول بأني واثق من أن حلف الأطلسي سوف يخرج من ارض العرب لست أفعل ذلك من باب التفاؤل أو رفع معنوية المنهزمين من أبناء الأمة وما أكثرهم اليوم. إنما أفعل ذلك بسبب حقيقة كونية مفادها أنه ما من طغيان دائم. فلو كنتَ متدينا قلت بأن هذا قضاء الله القائل “وتلك الأيام نداولها بين الناس”. وإن لم تكن متدينا أدركت أن منطق التأريخ قضى منذ ظهر الإنسان بأن كل دولة استكبار مستبدة مهما امتد سلطانها فهي زائلة لا محالة. وهكذا فإن استبداد الصهيونية الأمريكية اليوم لا محالة سيزول عن أرضنا بعد أن تتفتت الولايات المتحدة من الداخل وتدخل في صراع جمهورياتها حول المتبقي من نظامها الراسمالي المتهاوي. وحين يتهاوى الإستبداد الأمريكي يتهاوى حلف الأطلسي وتخرج كل قوات الحلف من أرضنا وتزول قاعدة الصهيونية في أرض فلسطين بتهاوي القوة التي أوجدتها تماما كما زالت الدولة الصليبية في بلاد الشام في القرن الثالث عشر بعد أن فقدت أوربا الغربية تلاحمها في المشروع الهجين لفرض الهيمنة.

وقد يقول قائل: إذا كنت مقتنعا بهذا فلماذا إذن تكلف نفسك مشقة البحث عن سبل إخراج حلف الأطلسي من أرض العرب؟ وجوابي يقع في بابين. الأول هو رغبتي في تسريع هذه النتيجة الحتمية للإستكبار الصهيوني، ذلك لأن زمن الحدث، حتى الحتمي منه، يمكن تغييره لأنه نسبي لنا وهو لا وجود له بالنسبة لله.

أما الباب الثاني لجوابي وهو الأكثر أهمية فهو ضرورة مشاركة انساننا العربي في المعركة من أجل استرداد كرامتنا التي مضى على هدرها دهر طويل وقد آن لهذا الهدر أن يتوقف. إن من قبيل الذل والخزي أن يبقى الإنسان العربي متفرجا حتى يحكم التأريخ له مصيره. لذا فإن قيام العربي في العمل سيعيد له شيئا من تلك الكرامة. والكرامة مهمة جداً للإنسان في مرحلة بناء الدولة لأن كرامة الأمة تأتي من كرامة أبنائها. وقد قال تعالى “ولقد كرمنا بني آدم” فهل يجوز أن نرضى بذل من كرمه الله؟

فكيف نشارك في إسراع رحيل حلف الأطلسي عن أرض العرب؟ إن نقطة البداية هي إقناع الإنسان العربي بأهمية انسحاب أية قوة أجنبية من أرضنا. أي ان العمل يستند أولا وأخيرا على سلوك المواطن العربي. وهذه مهمة تربية وتوعية ذاتية أي انها تقع على عاتق كل عربي يتطلع لمستقبل كريم وآمن للقادمين من الأجيال.

إن أرض العرب كلها اليوم تحت وصاية حلف الأطلسي بشكل أو بآخر. فمنها ما هو محتل كليا، ومنها ما هو محتل بشكل جزئي عن طريق وجود قواعد للحلف فيه، ومنها ما قد يخلو من القواعد لكنه مباح لحلف الأطلسي بأرضه ومياهه وسمائه متى شاء الحلف أن يستعملها. لذا قد يختلف سلوك العربي في هذا المضمار بناء على وضع البلد الذي يعيش فيه. لكن هذا الإختلاف قد لا يكون كبيرا لإن نتيجة الإصطدام مع إصرار الحلف على البقاء في أرض العرب هو الحقيقة المشتركة للجميع.

ولا بد من تأكيد حقيقة مهمة قبل أي تصور لما يراد من العربي أن يفعله. تلك هي أن تحرر أرض العرب من الوجود العسكري الأجنبي ليست قضية رأي سياسي أو تصويت أو استفتاء. فحاكم دولة مثل الكويت على سبيل المثال لا يحق له أن يقول إنه حصل على موافقة شعبه لمنح حلف الأطلسي حق الوجود في ثلث أرض الكويت، كما لا يحق لرئيس وزراء العراق أن يوقع معاهدة يمنح فيها الأمريكيين حقوق نصب قواعد في أرض الرافدين حتى إذا كان رئيس الوزراء قد فاز بالإنتخاب على هذا الأساس. إن ما أريده بهذا هو أن قضية تحرر أي شعب هي ليست قضية رأي يتفق عليه. وتأريخ البشرية يؤكد ذلك. فحركات التحرر الوطني في العالم هي حركات قلة ولو كانت رأيا نتج عن استفتاء لما تحرر الكثير من دول العالم. إن قضية الحرية ليست قضية راي شعبي ينتج عما يسمى عبثا “بالديموقراطي”. فمصائر الأمم تقررها أقلية. هكذا كان التأريخ وهكذا سيكون. إن تأريخ الإنسان على الأرض لم تقرره الأغلبية في أية مرحلة بل هو دائماً قرار الأقلية. وليس حال العرب ليختلف عن أي قوم. ومما يزيد الأمر وضوحا هو ان حدود أرض العرب رسمتها الدول نفسها التي شكلت حلف شمال الأطلسي. ويحق لأي عربي في أي بلد كان أن يعد أي أرض عربية محتلة أو مستباحة على أن من مسؤوليته تحريرها لأنها أرض واحدة رسمت حدود تقسيمها الى دول عدة تلك القوة التي يجب عليه أن يقاومها ثم يطردها.

وأول ما على العربي أن يفعله هو عدم التعاون مع وجود الحلف في أرض العرب. وعدم التعاون هذا يأخذ أكثر من شكل. فهو في الحد الأدنى مقاطعة لكل منتج من دولة من دول الحلف الموجودة على أرض العرب. وحيث إن الوجود الأطلسي في أرض العرب حاليا يتمثل في ثلاث دول رئيسة وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وتركيا فليس من العسير على العربي مقاطعة هذه الدول الثلاث في كل مجال وذلك لوجود البديل لكل ما تنتجه هذه الدول. وهذه المقاطعة يمكن لكل عربي أن يمارسها مهما كان الوضع السياسي ومهما كان الإستبداد، حيث لا يمكن لأية سلطة أن تمنع هذه المقاطعة الفردية. ويقع واجب المقاطعة هذا حتى على أولئك العرب الذين اضطروا لسبب ما أن يعيشوا في هذه الدول!

ثم تأتي الخطوة التالية للمقاطعة وهذه يحددها البلد الذي يعيش فيه العربي. ففي دول مثل دول مجلس التعاون الخليجي، وهي في حقيقتها معسكر أطلسي كبير تتعثر فيه بالقواعد العسكرية وتكاد أساطيل الأطلسي تصطدم الواحدة بالأخرى لكثرتها ولضيق المياه، في هذه الدول ما زال الإنسان العربي متخلفا بالمفهوم السياسي وغير قادر أو ربما حتى غير راغب للمشاركة في معركة استرداد الكرامة. وينتج عن هذه الحقيقة أن عملية التوعية قد تكون صعبة وبطيئة لكن واجب القلة المتنورة يجب أن ينصب على تأصيل الشعور بضرورة التحرر من قيد الوجود الأطلسي في كل شبه جزيرة العرب. كما يجب على أولئك المؤمنين التوقف عن التعاون، كلما أمكن ذلك، وبأية صيغة ممكنة مع دول الأطلسي الموجودة عسكريا على أرضه. وهذا يتطلب قدرا من التضحية بالإمتيازات، لكن استرداد الكرامة ليس مجانيا!

إن عندي عتاب شديد على العرب الأحرار والطيبين من أهل دول مجلس التعاون الخليجي. ذلك أني لا بد أن أقول إن حديثي عما يجب عليهم القيام به في سبيل إزالة الوجود الأطلسي من جزيرة العرب يقترن بحقيقة ثانية لم أجدها فيهم ألا وهي عدم مطالبتهم الجدية لحكوماتهم البائسة والأجيرة بوجوب معاملة العرب الوافدين الى جزيرة العرب كأهل وليس غرباء. إن نمو هذا الشعور بالإنتماء العربي الواحد سوف يعزز القناعة بوجود أمة يمكن لها مستقبلا أن تدافع عن نفسها دون حاجة لأجنبي يدعي أنه يفعل ذلك. إن الدعوة للأخوة العرب في جزيرة العرب هي في المطالبة علنا أن تعامل حكوماتهم العرب الوافدين كما فعل العراق ومصر وكما فعلت سورية وتفعل. إن هذا الإيمان متصل بجذر المطالبة برحيل الأطلسي عن أرض العرب.

أما في دول العرب خارج مجلس التعاون الخليجي فالحال يختلف. فقد خرج العربي في عدد من هذه الدول ضد الإستكبار وضحى وسقط وقام وسقط واستمر. أي بمعنى آخر هو مشارك فعلا في عملية التصدي وليس مجرد مشاهد ومراقب سلبي. وواجب هذا العربي في العراق وسورية أن يقاتل الوجود الأطلسي على أرضه أيا كان شكله وأيا كانت الأرضية التي سمحت له بالوجود. فيقاتل العربي في العراق الوجود الأطلسي (الأمريكي والتركي)، ويقاتل العربي في سورية الإحتلال (الأمريكي البريطاني التركي). ولا يتوقف العربي عن القتال حتى الخروج الكامل لكل قوات حلف الأطلسي. فلا بد من التذكير هنا في أنه مضى على الحرب العالمية الثانية أكثر من سبعين عاما وما زالت قوات الإحتلال الأمريكية موجودة بأعداد كبيرة في كل من اليابان وألمانيا التي احتلتهما الولايات المتحدة برغم كل التطور الإقتصادي والسياسي لكل من البلدين. إن هذه الحقيقة تدلنا على أن الإستكبار الصهيوني لا يرحل بالسبل السلمية أو بالسياسة، فلا بد من إزالته بالقوة. فالحديث عن إمكانية جلاء المحتل الأمريكي عن العراق بالحوار هو وهم كبير.

إن إزالة حلف الأطلسي من أرض العرب ليس مجرد مشروع سياسي مرحلي. بل هو يمثل محاولة استعادة التوازن التأريخي لخلل يمتد في جذوره الى العهد الصليبي الذي أقامت فيه القبائل الجرمانية وجودا عسكريا على أرضنا والذي وإن ضعف في فترة ما فإنه عاد ليتمكن من أرضنا بشكل أوسع في القرنين الماضيين. إن حلف الأطلسي الذي يتحكم به اليوم الصهاينة الأنكلوساكسون لعب دورا رئيسا في خراب الأمة وتقسيمها مما أوصلنا، أو شارك بشكل كبير في إيصالنا، لما نحن فيه ولا أريد هنا أن أحصي جرائمه فهي أكبر من أن يسعها مقال.

فما هي خطوط الدولة العربية التي أطمح في أن تقوم؟ هذا ما سوف أحاول البحث فيه.

فللحديث صلة…..
عبد الحق العاني
لندن في 24 نيسان 2022

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image