قل ولا تقل / الحلقة الخمسون بعد المائة

 إذا كنا نعاقب من يعتدي على الأثر التأريخي أو البيئة ألا يجدر بنا أن نعاقب من يهدم لغتنا؟

قل: أوكلت إليه مُهِمَّةٌ من المُهِمَّات

ولا تقل: أوكلت إليه مَهَمَّةٌ من المَهَمَّات

ومما انتشر خصوصاً في الإعلام المسموع والمرئي حين لا يتبين ذلك في الإعلام المقروء قول المذيعة بإصرار متميز وهي تنطق كلمة “مَهَمَّة” كاشفة عن محدودية مفرداتها لأنها تريد “مُهِمَّة”. وفي ذلك كتب الدكتور عبد الهادي بو طالب:

“بدأ يشيع في لغة الإعلام ضبط الميم بفتحها في كلمة مُهِمّة وفتح الهاء (مَهَمَّة) والصواب ضم الميم وكسر الهاء (مُهِمَّة). وهي مؤنث مُهِمّ. إذ نقول “أمر مُهِمٌّ”، و”قضية مُهِمَّة” وفعلها رباعي (أَهَمّ) وهو مُتعَدٍّ يتطلَّب مفعولا به. نقول : “أهمَّه الأمرُ” أي أخذ باهتمامه “أهَمَّ المعلّمَ (مفعول به مقدم) شأْنُ (فاعل مؤخر) تلميذِه فأعطاه عناية خاصة”. ونقول “مُهِمَّة التعليم حرفة شريفة”. و”مُهِمّة الصحافة أصبحت خطيرة”. ونجمع المُهِمّة على مُهِمَّات (جمع المؤنث السالم)، أو على مَهامّ (جمع تكسير). ونقول:”مَهامّ الأمور”. و”مَهامّ الحكومة”. و”مَهامّ المنصب الحكومي”.

ونقول:”فلان مكلف بمُهِمّة في ديوان الوزير”. و”بعثه الوزير في مُهِمّة”. و”جاءت البعثة في مُهِمّة استطلاعية”. أو”حضرت اللجنة للقيام بمُهمَّة تحقيق”.
أما المَهمّة على وزن مَفْعَلَة وتجمع على مَهَمَّات، فتعني موضع الاهتمام والقصد. ونقول “هذه القضية لا مَهَمَّة لي بها” أي ليست من اهتماماتي، ولا مما يشغلني، أو لا غرض لي بها، ولا أقصدها أو أرغب فيها.”إنتهى

وقد ذكرت أنفاً ما كتبه صاحب القاموس:“وهَمَّه الأَمْرُ هَمّاً ومَهَمَّةً: حَزَنَه”، فيكون من معاني “مَهَمَّة” الحزن. وكتب إبن منظور في باب “كود”: “ويقال ولا مَهَمَّة لي ولا مَكادة أَي لا أَهُمُّ ولا أَكادُ”. وهي ليس ما تريده المذيعة في تكليف المسؤول بمهمة.

 

وحيث إن الخطأ في استعمال “مهمة” ناتج عن الخطأ في التمييز بين “مهم” و”هام” فإني سوف أورد ما كتبه الدكتور مصطفى جواد في ذلك برغم أني جئت به قبل اشهر، وذلك لتعم الفائدة.

 

قل: أمر مُهم وقد أهمَّه الأمر

ولا تقل: أمر هام وقد همَّه الأمر

قال الراغب الأصبهاني في مفردات غريب القرآن: وأهمّني كذا أي حملني على أن أهم به، قال تعالى: “وطائفة قد أهمّتهم أنفسهم”. فالأنفس مهمَّة إذن لا هامَّة فالشيء المهم هو الذي يبعث الهمة في الإنسان ويجعله يهم ويقلقه أحياناً. ونقل اللفظ من الوصفية الى الإسمية فقيل له “المُهم” وجمع على “المهام” تكسيراً وعلى “المهمات” تصحيحاً. وهو بالبداية اسم فاعل من أهمّه يُهمّه إهماماً.

والهام هو المحزن وهو من همَّه أي أحزنه حزناً يذيب الجسم، ولا محل له في تلك الجملة. وقال ابن السكيت وهو الدليل الخريت في اللغة العربية، قال في كتابه اصلاح المنطق: “ويقال قد أهمّني الأمر: إذا أقلقك وأحزنك، ويقال قد همّني المرض اي أذابني….ويقال همّك ما أهمّك”.

وجاء في لسان العرب: “ويقال: همَّك ما أهمّك، جعل “ما” نفياً في قوله ما أهمك اي لم يهمك. ويقال: معنى ما أهمك اي ما أحزنك أو ما أقلقك أو ما أذابك، يريد أن “ما” في الوجه الثاني تكون إسماً موصولاً، ومرادنا من إيراد هذه الجملة المبهمة هو فعلها الرباعي “أهمك يهمك إهماماً” فهو المستعمل عند العرب في مثل هذا المعنى.

وجاء في لسان العرب ما يُلبس المعنى على القارئ غير الفطن، قال: “الهمُّ: الحزن وجمعه هموم، وهمّه الأمر همّاً ومهمّة وأهمّه فاهتمّ واهتمّ به”. أراد بقوله: همه الأمر: أحزنه لأنه بدأ المادة بتفسير الهم، مع ان قولنا أهمني الأمر يُهمني يعني جعلني أهم به بدلالة ما نقل صاحب اللسان بعد ذلك، قال: “وفي حديث سطيح (شمر فانك ماضي الهم شمَير) أي إذا عزمت على شيء أمضيته والهم ما هم به الإنسان في نفسه تقول: أهمني هذا الأمر”. هذا ولو صحت دعوى أن “همه الأمر” بمعنى “أهمّه الأمر” الذي اشتق منه المهم وجمعه المهام والمهمات لسمت العرب “المهم” باسم “الهام” ولجمعته على “هوام وهامات”، ولكن هذا لم يكن ولم يُصر اليه قط. فالهام لم يرد في لغة العرب بمعنى المهم.

ثم أن “همَّ” بهذا لو كان فصيحاً لأستعمله الفصحاء في كلامهم وخطبهم ورسائلهم ولورد في القرآن الكريم، فالوارد فيه هو الرباعي. قال تعالى في سورة آل عمران: “وطائفة قد أهمتهم أنفسهم يظنون بالله غير الحق ظنّ الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء”.

نضيف الى ذلك أن “همّ” لو صح بمعنى “أهمّ” في المعاني المشار اليها لفضله الفصحاء على الرباعي لأن قاعدة الفصاحة العامة في ذلك تفضيل الثلاثي على الرباعي إذا كانا بمعنى واحد إلا إذا نُبّه على العكس بالنص والتصريح، فنعشه أفصح من أنعشه، ورجعه أفصح من أرجعه، ووقفه أفصح من أوقفه، ونقصه أفصح من أنقصه، وعاقه أفصح من أعاقه، ونتجه أفصح من أنتجه، وغاض الماء يغيضه أفصح من أغاض الماء.

أما الشواهد على رجحان “أهمّه يُهمّه فهو مُهم” على قولهم “همّه يهمه فهو هام” بعد شواهد القرآن الكريم فكثيرة، كقول ابن المقفع في كليلة ودمنة “ويرتاح اليه في جميع ما أهمّه” وقوله “فأهمّه ذلك وقال: ما كان للأسد أن يغدر بي”.

وجاء في نهج البلاغة “ما أهمّني أمر أمهلت بعده حتى أصلي ركعتين وأسأل الله العافية”. وقال أبو زينب بن عوف يخاطب عمار بن ياسر: “وما احب أن لي شاهدين من هذه الأمة شهدا لي عما سألت من هذا الأمر الذي أهمني مكانكما”. ذكر ذلك نصر بن مزاحم في أخبار صفين وقال البراض على رواية الفصحاء:

وداهية تُهمّ الناس قبلي شددت لها بني بكر ضلوعي

هدمت به بيوت بني كلاب وأرضعت الموالي بالضروع

وقال عمر بن الخطاب (رض): “دلوني على رجل استعمله على أمر قد أهمّني”، ذكر ذلك البهيقي مؤلف المحاسن. (م ج) إنتهى

وكان الشيخ إبراهيم اليازجي قد سبق أستاذنا الفاضل مصطفى جواد حين كتب في “لغة الجرائد”: “ان الكتاب يستعملون لفظ (هامّ) ثلاثيًّا لا يكادون يخرجون عنها في الاستعمال، والأفصح: مهمّ الرباعي، وعليه اقتصر في الصحاح والأساس”. 

فرد على “لغة الجرائد” الأستاذ سليم الجندي ، وهو أحد علماء الشام، فذكر ما عده أغلاط اليازجي في كتيب نشر في دمشق عام 1935 بعنوان: “إصلاح الفاسد من لغة الجرائد”. ومنها رده على هذا الرأي بما جاء في القاموس والتاج، “وهو: همّه الأمر كأهمه، فقد جعلوا الثلاثي والرباعي متماثلين ولم يذكروا أن أحدهما أفصح من الآخر”. وحين عدت للقاموس وجدت فيه قول الفيروزأبادي: “وهَمَّه الأَمْرُ هَمّاً ومَهَمَّةً: حَزَنَه، كأَهَمَّه فاهْتَمَّ”. وقد يجد القارئ الفطن ما شرحه العالم مصطفى جواد كافياً للرد على الجندي. فإن لم يكن ذلك كافياً فإن صاحب القاموس قد لا يكون صائباً في إنفراده في أن “همه” و “أهمه” واحد. وفوق كل ذي علم عليم. 

 

قل: القوات المكلفة بالمهمة

ولا تقل: القوات المولجة بالمهمة

فقد شاع في الإعلام اللبناني بشكل خاص إستعمال لفظة “مولجة” حين يراد بها “مكلفة”. كما شاع استعمل الفعل “تولّج” بمعنى “تولّى”. وقد نبه إبراهيم اليازجي لهذا لخطأ منذ عقود حين كتب في “لغة الجرائد” مصححاً قول أهله في لبنان “تولّج فلان الأمر” وهم يريدون به “تولى فلان الأمر”. فكتب  “وما نحسبهم إلا أرادوا هذا اللفظ الأخير بعينه أي لفظ تولاه فأبدلوا من ألفه جيماً وهو من غريب التحريف. وأما تولج فمعناه دخل مثل ولج المجرد”. (إ ي)

ولم يرد عن العرب إستعمال “ولج” أو “مولجة” بمعنى قريب مما يستعمل في لبنان اليوم. فقد جاء في الصحاح:

” وَلَجَ يَلِجُ وُلوجاً ولِجَةً، أي دخل”.

وهذا ابن فارس يكتب في مقاييس اللغة تحت باب “ولج”:

“الواو واللام والجيم: كلمةٌ تدلُّ على دُخول شيء. يقال وَلَج في مَنزِلِه ووَلَجَ البيتَ يَلِجُ وُلُوجاً.والوَليجة: البِطانةُ والدُّخَلاء.”

وقال تعالى: ” ذَ‌ٰلِكَ بِأَنَّ ٱللَّهَ يُولِجُ ٱلَّيْلَ فِى ٱلنَّهَارِ وَيُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِى ٱلَّيْلِ وَأَنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌۢ بَصِيرٌۭ”. أي يدخل من هذا في ذاك ومن ذا في هذا. وقال عز من قائل: “ام حسبتم ان تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة والله خبير بما تعملون.”  والوليجة هي البطانة كما أجمع الشراح.

 

قل: نَصّلوا أرماحَهم للحرب

ولا تقل: أنصلوا أرماحَهم للحرب

 

كتب الصفدي: “ويقولون: في قول الشريف الرضي

لوْ أنّ قومَكِ نَصّلوا أرماحَهم

بعيون سِرْبِكِ ما أبلّ طَعينُ

أنْصَلوا، فينقلب المعنى، لأن معنى أنْصَلتُ الرمحَ: نَزَعْت نصْلَه، ومنه قيل لرجب مُنْصِل الأسِنّة، لأنهم كانوا ينزعون فيه الأسنة فلا يَغْزون، ومعنى نَصّلته: ركّبت فيه السِّنان.”

وخالف الصحاح والقاموس الصفدي في هذا فجاء في القاموس:

“وأنْصَلَ السَّهْمَ ونَصَّلَهُ: جَعَلَ فيه نَصْلاً، وأزالَهُ عنه، كِلاهُما ضِدٌّ.”

 

وفوق كل ذي علم عليم!

وللحديث صلة….

 

عبد الحق العاني

 

15 أيلول 2023

www.haqalani.com

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image