نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء الثامن

إلى أين: الدولة العربية الموحدة – التكامل السياسي 

انتهيت في الحلقات السابقة من عرض رأيي في اساس النظام السياسي المرجو للدولة العربية الموحدة.  وهذا يثير أكثر من سؤال لعل في طليعتها ما هي الدولة العربية التي أطمح أو اعتقد أن هذا النظام السياسي الذي عرضته يصلح لها.

ولي هنا وقفة مع آخر ما استجد في العالم من تغيير ركز أذهان الناس إذ هو في الحقيقة ليس تغييرا بل هو جزء من تأريخ البشرية غاب عنهم. ذلك أن الحرب الروسية الأوكرانية أو بالأحرى الحرب الروسية الأوربية أعادت للأذهان حقيقة مهمة. ألا وهي أن الحدود الجغرافية للدولة الوطنية، التي أوجدها الغرب داخله وفرضها في أرجاء الأرض، ليست جزءاً من قانون طبيعي أو سياسي يحكم الأرض. فقد أكدت روسيا التي تمتلك القوة لدعم هذا التأكيد أن الحدود التي فرضتها الصهيونية حين نجحت في تفكيك الإمبراطورية السوفياتية ورسمت لها حدودا، لم تكن روسيا قادرة على منعها يومها، لم تعد مقبولة لها وانها بصدد إعادة رسم تلك الحدود بما يحفظ وحدة الشعب الروسي كما تفهمه هي لا كما تقرر الصهيونية. فأيا كانت نتيجة الحرب، سواء في استسلام أوكرانيا الكامل ونزع سلاحها أم في انهيارها الكامل وتقسيمها بين جيرانها ولا حل ثالث، فإن النتيجة هي إعادة رسم حدود روسيا السياسية والإجتماعية. وسوف يتبع ذلك تعديل في حدود روسيا مع عدد من جيرانها.

ونستخلص من هذه الحقيقة الجديدة على الأرض أن الحدود ليست مقدسة ولا ثابتة.

فكيف تنفع هذه الحقيقة الأمة العربية؟

قد لا ينفع كثيرا العودة في التأريخ لما قبل الإسلام والذي أخرج الأمة العربية للعالم.  فمنذ ولادة الإسلام عاش العرب في وضع سياسي يتميز بدولة دينية يمثل فيها الحاكم السلطة السياسية والدينية تحت إدعاء الخلافة.  فعاش العرب بشكل عام تحت حكم الدولة الأموية والعباسية والأموية في الأندلس والعثمانية. فلم تقم في القرون الأربعة عشر المنصرمة أية دولة وطنية بالمفهوم الأوربي الذي نعرفه اليوم ولا دولة قومية بمفهوم دولة عربية ذات هوية عربية. فقد كانت الدولة الإسلامية “إمبراطورية” حدودها الجغرافية هي حدود سلطتها السياسية والعسكرية. 

ولم يكن عند العرب مشكلة في حكم الدولة الإسلامية لهم لأن الإسلام والعروبة كانا متلازمين ومتداخلين ما دامت الدولة الحاكمة عربية حيث كان العربي يعد هويته العربية مطابقة لهويته الإسلامية. وهو حال يختلف كثيرا عن المسلم في القارة الهندية مثلا والذي اصبح الإسلام هويته لتمييزه عن الهندوسي. لكن الحال تغير بالنسبة للعرب حين ولدت الدولة العثمانية وتبعتها دول اسلامية غير عربية مثل الصفوية في إيران والمغولية في القارة الهندية. 

فالدولة العثمانية التي طورت لغتها البدائية وخلقت لها ثقافة تركية محدودة في ظل الإسلام وفضله أوجدت حالة جديدة يعيش فيها العربي في دولة اسلامية ليست عربية فأصبح هناك فرق مفروض عليه بين الإنتماء للدين أو للهوية العربية فالأول إختيار والثاني قدر. وهكذا وقع الفصل بين العروبة والإسلام. وحين تعبت الدولة العثمانية وقامت فيها حركات قومية تركية نشأ بطبيعة الحال شعور قومي بين الشعوب المختلفة في الدولة الكبيرة بما فيهم العرب. وبرغم أن قادة الحركة القومية العربية كانوا من النصارى العرب إلا أن الحقيقة هي أن المسلمين العرب المتعلمين لم يكونوا أقل حماسا من النصارى في الدعوة لهوية قومية عربية في وجه سياسة “التتريك” العثمانية التي كادت لتأتي على لغة العرب وتراثهم لولا القرآن الذي حفظهما.

وحين كان العرب تحت الحكم العثماني البغيض والمعادي لكل ما هو عربي، برغم أنه لولا إسلام العرب لما كان للترك دولة، كان الغرب قد بدأ حملته لإستعمار العالم. وما يهمنا هو ما حدث في منطقتنا. فقد جاء البرتغاليون لسواحل جزيرة العرب وعقبهم الهولنديون ثم حط الأنكلوساكسون بكل ثقلهم منذ ذلك الوقت حتى اليوم في شبه جزيرة العرب. أما الفرنسيون فقد احتلوا أكبر جزء من شمال أفريقا وساحل سورية الكبرى.

وحين تعبت الدولة العثمانية وأصبح شغل سلاطينها العبث بنساء شرق أوربا وجمع المال فإن أرض العرب وما ستؤول اليه لم يكن في راس مهماتهم. وهذا سمح بدوره للوجود الأوربي أن يتغلغل ويقوى فاصبح الوجود الذي بدأ تجاريا حقيقة سياسية تدعمها قوة عسكرية إذا اقتضى الحال.  فدخلت الصهيونية الأنكلوساكسونية جزيرة العرب، متحاشية مكة حتى لا تثير حفيظة المسلمين الأغبياء السذج الذين يفهمون الإيمان في حماية “حجارة” المقامات الدينية وليس في صيانة جوهر العقيدة، فادعت التجارة حين كان هناك قليل منها بل كان المشروع هو الوجود والتغلغل بانتظار سقوط الرجل المريض في اسطنبول.

ولكي يفهم العرب مشروع الصهيونية لأرض العرب يجب التذكير بأن إهتمام الغرب بأرض العرب سبق بفترة طويلة اكتشاف النفط فيها!

وهكذا كان. فقد بدأت الصهيونية بالتقرب من شيوخ القبائل البدوية المعدمين وتمويلهم بالمال ثم سارعت بالوعد في تنصيبهم حكاما في المناطق التي قسمتها كما رأته خدمة لمصلحتها.

وهكذا ولد من الوهم والعدم في جزيرة العرب دولة قطر ودولة البحرين ودولة الإمارات العربية ودولة الكويت. وليس لأي منها اثر في التأريخ أو المجتمع أو السياسة. ولست أود الخوض في الأكذوبة التي حاولت الصهيونية تمريرها على أنها جزء من القانون الدولي حيث إنها لا اصل لها في القانون. إلا أن الحقيقة الوحيدة الي تواجهنا اليوم هي أن شبه جزيرة العرب تحولت على يد الصهيونية من دولة واحدة الى خمس دول! وكأن هذه ليست كارثة كافية فاذا بالعرب يقاتلون من أجل تثبيت هذه الأكذوبة.

ولم يكن هذا كل ما فعلته الصهيونية لتمزيق الأمة العربية، والتي لم تشهد تمزيقا مثله منذ ولد الإسلام، فقد قسموا بلاد الشام التي لم يعرفها التأريخ سوى واحدة الى أربع دول. وقسموا مصر والسودان الى اثنين. وحيث إنهم كانوا محتلين للجزائر بالكامل فإنهم منعوا اية امكانية لوحدة المغرب العربي. ثم دعموا حركات مجهولة تطالب بمزيد من التمزيق في إدعاء مجهولين، لا يعرف أحد من يقف خلفهم، باستقلال الصحراء عن مغرب الأمة العربية. ولعل من مآثر حركة البعث أنها عارضت بحق وبشدة المطالبة باستقلال الصحراء ودعت لوحدتها مع المغرب.

ولم أجد أفضل مما قاله شاعر العرب المبدع محمد مهدي الجواهري في وصف الحال حين قال في قصيدته الرائعة في ذكرى أبي الطيب المتنبي عام 1979:

تمزقنا دويلات تلاقت

بها الرايات ضما واحتضانا

تُرقَّعُ راية منها بأخرى

وتستبقي أصائلها الهجانا

وتفخر أنها ازدادت عديدا

وتعلم أنها ازدادت هوانا

 

للحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في  10 أيلول 2023

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image