الصراع الإيراني الصهيوني على العراق – 3

ماذا فعلت إيران في العراق بعد 2003؟

انتهيت في الجزء السابق بالسؤال: “ما الذي فعلته إيران أمام الوجود الصهيوني المستبيح للعراق؟”

لكني لا بد أن اكتب قليلاً عن ما وصلني من ردود وملاحظات حول ما كتبت في الحلقتين السابقتين. 

إن مما شك فيه ان من يكتب لا بد ان يجد بين قرائه من يقف معه ومن يقف ضده ومن يقف متفرجاً ومن يقف مستفيداً. وهذه الحقيقة قائمة في كل وقت ومكان ومن لا يقبلها فليس له أن يكتب أصلاً. فقد وصلني رأي من تابعي إيران من أهلي العراقيين يقول بأنه مع ما تفعله إيران في العراق مهما كان ذلك وكيفما تم. ووصلني رأي من تابعي الصهيونية في العراق يقول بأنه لا خلاص للعراق من إيران إلا على يد الهيمنة الصهيونية المطلقة، وإن كان يسميها بالأمريكية، وكأن هناك فرقاً بين الإثنين! ويذكرني هذا بما كان يقوله عدد من العراقيين قبل غزو 2003 بانهم مستعدون للتعاون مع مناحيم بيغن للتخلص من صدام حسين، وكان لهم ذلك.

لكن الذي يهمني أكثر من اطلاعي على ما كنت أعرفه عن إنقسام أهلي العراقيين المحزن هو ان ما كتبته أثار عدداً من الأسئلة. وهذا الجانب الإيجابي يعني أني أصبت الهدف في دفع حالة التفكر لما كان ولما يمكن أن يكون. لكن القراء الكرام الذين سألوني عن رأيي في الحرب العراقية الإيرانية ودخول الكويت والحصار والغزو إنما يحملونني ما لا يمكن أن أجيب عليه في سلسلة من مقالات قصيرة تحدد معالم الحدث أكثر من تحليله. لأن الإجابة على أسئلة كهذه تعني دراسة سياسية تأريخية لسبعين عاماً للعراق. فلا يمكن إعطاء رأي منصف في صدام حسين دون دراسة وصوله للحكم ولا يمكن دراسة وصوله للحكم دون دراسة المشروع القومي العربي في العراق ولا يمكن دراسة المشروع القومي في العراق دون دراسة الصراع العربي الصهيوني، وهكذا. بل ان دخول صدام حسين للكويت لا يمكن أن يدرس دون الرجوع الى نهاية القرن التاسع عشر حين تم اقتطاع ميناء العراق العميق على شاطئ الخليج باحتلال بريطانيا لقضاء الكويت، وهو الأمر الذي رفضته كل حكومات العراق، وليس صدام حسين وحده. فاذا خيبت ظن البعض في عدم الرد على هذه الأسئلة فليس ذلك لكسلي ولكنه لعدم مقدرة سلسلة مقالات أن تنصف التأريخ. 

لقد شاركت في اعداد أربعة كتب، باللغة الإنكليزية، عن العراق في الأعوام الإثني عشر الماضية، وما زلت أشعر أن هناك الكثير مما لم نقله فكيف لي أن أوفي الأمر حقه في عدد محدود من مقالات! ولا بد أن أكثر من قارئ سوف يسأل: ترى لماذا كتبت بالإنكليزية؟ والجواب المحزن هو عدم وجود ناشر عربي لكتب عن العراق، إما بسبب الخوف من غضب السعودية التي تتحكم بأكثر دور النشر والتوزيع، كما اكتشفت في مسيرتي في السنوات العشر الماضية، أو بسبب اقتناع الناشر كما ادعى عدد منهم بعدم اهتمام القاريء العربي. وكلاهما أو أي سبب آخر هو مؤشر على بؤس حال هذه الأمة. وقد تمكنا بعد سنوات من إيجاد ناشر لكتابين مترجمين من الأربعة وما زال كتابان عن “الإبادة في العراق” ينتظران الترجمة والنشر إن وجد ناشر.

أعود الآن لمواصلة الحديث حيث انتهيت في الحلقة السابقة.

قلت في الحقلة الأولى إني لن أدخل في عرض للحرب العراقية الإيرانية للأسباب التي بينت. هذا الى جانب أن ثلاثة من الكتب التي أشرت لها عرضت الحرب في اطار تحليل أسباب الصراع وما آل اليه العراق. لكن المهم هنا هو ادراك أهم الدروس التي خرجت منها إيران من حرب الأعوام الثمانية.  فقد أدركت إيران ما يلي:

  1. إن جيش العراق بعقيدة قومية هو العقبة الكأداء أمام مشروعها في الهمينة على المنطقة. وكلما ازدادت قوته كلما ازداد خطره في تحجيم مشروع إيران للمنطقة.
  2. إن بوابة الخليج لن تفتح للإستباحة ما دام جيش العراق القومي قائماً.
  3.  إن مستقبل إيران لن يؤمن إلا بالاعتماد الكامل على النفس.

وهكذا عملت إيران. 

فقد انشغل حكام العرب الذين يمتلكون، بسبب العارض الجغرافي، مصادر الطاقة والمال في أوربا وأمريكا بشراء الفنادق وفرق كرة القدم والبنايات البائسة وسندات الإستثمار، التي لا تساوي الورق المكتوبة عليها اذا شاء رب الدار أن يلغيها. هذا الى جانب انشغالهم بتأمين حصار العراق!

أما إيران فقد أدركت أثناء الحرب المريرة والحصار الذي كان مفروضاً عليها معنى الحاجة. فأقامت سياسة البناء على قاعدة الاعتماد على النفس للوصول الى الاكتفاء الذاتي. وهي وان لم تتمكن من تحقيق ذلك كاملاً إلا أنها نجحت بشكل متميز إذا ما قيست بأية دولة في المنطقة إذ تمكنت في ثلاثين عاماً أن تبني اقتصاداً وطنياً نشطاً وصناعة حربية وطنية تغني جيشها عن الحاجة للسلاح أو العتاد كما حدث لها في حرب الأعوام الثمانية. فهي اليوم، دون مبالغة في القول، قوة اقليمية يحسب لها الغرباء عن المنطقة أكثر من حساب.

أما الدرس الثاني الذي تعلمته إيران من الحرب فقد قضى بوجوب حل جيش العراق القومي. وفي هذا اتفقت إيران مع المشروع الصهيوني الذي كان هدفه الأول حل جيش العراق ذلك لأن للصهونية ثأراً قديماً يقضي بضرورة حل أو هدم كل الجيوش التي حاربت في فلسطين عام 1948.

وحين نتحدث عما فعلته إيران في العراق فلا يمكن أن نفصل ذلك عما فعلته الصهيونية حيث إن إيران لم تكن سيدة الموقف في العراق في أي يوم وبرغم كل ما يقال فإن العراق كان وما زال محتلاً بيد الصهيونية. ويجب فهم هذه الحقيقة عند أية محاولة فهم للدور الإيراني في العراق ومن لا يفهم هذه الحقيقة أو يحاول أن يتجاوزها بالنظر الى الدور الإيراني بمعزل فإنه يلعب دور الشيطان الأخرس. ولو لم يكن الأمر كذلك فإن الصهيونية ستكون إما جمعية خيرية أو جمعية أغبياء جاءت بابنائها ومالها لتسلم العراق لإيران!

وأول قرارين أصدرهما الصهيوني الأمركي ورفيقه البريطاني كانا في اجتثاث البعث وحل جيش العراق وكل قوى الأمن والمخابرات. وكلا القرارين كان الهدف الأول للصهيونية في العراق وهو هدفها الآن في سورية. وقد وافقت إيران عليهما للأسباب التي سبق وأوجزت. فحققت إيران جزءاً من هدفها الأكبر دون أن تكون هي المنفذ. وحيث إن العراق كان بيد الصهيونية فإن إيران كان تتحرك بقدر ما يتاح لها وما يمكن أتباعها من عمله ضمن نطاق الإحتلال الصهيوني الكامل للعراق. 

وقد يقول المراقب غير المدقق إن الصهيونية ارتكبت حماقة في حل جيش العراق إذ كان يجب أن تفعل ما فعلته في اليابان والمانيا بالإبقاء على هيكله الأساس وتغيير القيادات فحسب. لكن الأمر ليس كذلك. فحين كان الهدف من الحرب العالمية الثانية هو الإنتصار في الحرب واخضاع العدو فإن الهدف من غزو العراق كان بداية مشروع رسم خريطة جديدة لأرض العرب. وهذا المشروع يقتضي تشظية وتقسيم المنطقة لطوائف، لكي تسود الصهيونية، وهو مما لم يكن عليه الحال في نهاية الحرب العالمية الثانية. وهكذا كان حل الجيش وكتابة دستور العراق الذي ثبت قاعدة ذلك التقسسيم والذي جعل من العراق، وهو أصغر من ولاية كالفورنيا، دولة اتحادية. فتصور الصغار أن جعل العراق دولة اتحادية نقله الى مصاف الدول العظمى! 

ولم تكن الصهيونية مشغولة بموضوع بناء جيش جديد للعراق لأنها كانت معنية بتقسيمه لا بنائه. وهنا تصورت إيران أن بمقدورها أن تضع يدها على مؤسسة جديدة لجيش العراق وتجعل منه جيشاً موالياً لها من حيث تركيبة مذهبية في جوهرها تفتقد لأي انتماء قومي سوى الولاء للمذهب والمرجعية الدينية في أغلب الظروف. وهذا سيحقق لها قيام جيش يمسك بالعراق الذي قسمته الصهيونية دون أن يشكل خطراً محتملاً عليها كما فعل جيش العراق القومي في ثمانينيات القرن الماضي. ولم تخش الصهيونية ذلك فأتاحت لإيران أن تفعل ذلك. حيث إن الصهيونية كانت مدركة أن جيشاً كهذا لا يمكن له أن يفعل شيئاً لأن تسليحه وتدريبه كان بيدها أولاً، وثانياً لأن جيشاً بلا عقيدة ليس سوى جهاز مسلكي لا قيمة له في أي صراع! وقد أثبتت الأحداث صحة ما توقعته الصهيونية فحين ولد تنظيم الدولة الإسلامية، وهو ابن القاعدة التي بنتها الصهيونية في افغانستان بمال الأعراب، عجز جيش العراق الجديد عن مواجهتها مما اضطر المرجعية، التي سكتت عن غزو العراق، أن تفتي بالجهاد ضد “داعش”، فكان الحشد الشعبي.

وحيث إني قد أسلفت بأن وجود إيران في العراق كان له هدفان مرتبطان أولهما بالهيمنة على المنطقة بسبب ديني/مذهبي أو بسبب قومي وثانيهما حماية الأمن القومي الإيراني أمام الوجود الصهيوني في العراق، فقد أصبح الشاغل الرئيس لإيران في العراق هو تأمين حدودها الغربية من الإختراق الأمني ومن تحريك الشعور القومي لدى الأقوام المتعددة التي تشكل الخريطة السكانية لدولة إيران. فكان عليهم الإعتماد على العراقيين الذين لجؤوا اليها في العقود الثلاثة التي سبقت الغزو. وهؤلاء في أغلبهم لم يكونوا من أكرم القوم ولا أنظفهم ولا أقدرهم. ذلك لأن العديد من الذين لجؤوا لإيران تركوها لأسباب أهمها عدم احترام الإيرانيين لللاجئين العراقيين. وهم أمر قد لا يصرح به أحد اليوم لكن الذي عاصروا الفترة التي سبقت الغزو على بينة من أمرهم. 

أما العراقيون الذين كانوا في العراق فقد كان الكرام منهم على حذر من ركب قطار الغزو بسرعة. فهم حتى إذا كانوا معادين للبعث فإنهم لم يكونوا مرحبين بغزو أجنبي لوادي الرافدين فليس من إنسان أياً كان لا يعرف ما يعني غزو أرضه. كما ان العقول القادرة هي عقول حرة بطبيعة الأشياء. وهكذا انتهى العراق، باشراف إيراني، يديره أناس من شذاذ القوم من باحث عن مال أو باحث عن جاه أو باحث عن شرف أو باحث عن شهادة مزورة، حيث لم يجد الإيرانيون يومها غيرهم لإدارة العراق. وكانت الصهيونية مرتاحة لهذا الحال دون أدنى شك ذلك لأنه حقق لها المطلوب في ابقاء العراق ممزقاً عاجزاً مع تحميل تبعية ذلك الفشل لإيران بسبب أتباعها الذين يديرون الأمر وليس تبعية ذلك للصهيوينة التي خلقت الحال وأمسكت بكل المفاتيح!

فانتهى العراق، الذي كانت صفة “الرشوة” فيه هي أسوأ ما يمكن أن تطلق على موظف، يحتل آخر السلم في الفساد من بين 180 دولة في العالم لأن “الرشوة” أصبحت سنة في الدولة العراقية الحديثة التي خلقتها الصهيونية ويديرها رجال إيران.

وهنا لابد للمراقب أن يسأل: أترى إن إيران ليست مدركة لما حدث، وانها ستبدو المسؤلة عما يحدث في العراق؟ ولماذا لم تفعل شيئا لمنعه؟ أم هل كانت عاجزة حقا عن فعل شيء لمنع ذلك؟

فقد نقل رامزي كلارك عن أحد قادة القوة الجوية الأمريكية أن دمار 95% من انتاج الطاقة الكهربائية في العراق عام 1991 كان لإجبار العراقيين على ازاحة صدام حسين عن الحكم. وبرغم أن القائد الأمركي كان كاذباً، والأنكلو ساكسون هم سادة الكذب في العالم، إلا ان نظام البعث نجح في إعادة أكثر من نصف انتاج الكهرباء وشغله وأدامه برغم الحصار مدة اثني عشر عاماً كما فعل في توزيع الحصص التموينية ومنع قيام مجاعة حقيقية في البلد.

فلماذا لم يتمكن الإيرانيون من اعادة الكهرباء للعراق بعد 16 عاما من النظام “الديمواقرطي” الذي تدعمه إيران والصهيونية ودون أن يكون له عدو يهدده وينتج أربعة ونصف ميلون برميل نفط يومياً؟ فحتى لو افترضنا، وهي ليست فرضية بعيدة عن الصحة، ان الصهيونية لا تريد اعادة الكهرباء للعراق فلماذا لم تتمكن إيران من اقناع رجالها بحل هذه المشكلة الحقيقية؟ 

وهل ترضى إيران الفقيه، أو إيران الدولة، داخلها بفساد يشبه من قريب او بعيد الفساد السائد في العراق اليوم؟ واذا لم ترضه فكيف تسكت عنه، إن لم نقل تسعى كي تمنع هذا الفساد الذي نخر الدولة والناس وأفسد علاقاتهم؟

أم ان إيران وصلت لنيتجة مفادها انها أمام خيارين: إما أن تبقي على الفاسدين لتمسك بزمام الأمور أو أن تتخلى عنهم فتفقد العراق؟ فاختارت الأول!

ولا بد للناظر بموضوعية، متجنبًا العواطف ما أمكن ذلك، أن يتوقف قليلاً ويتأمل ملياً. فليس من المعقول أن الساسة في إيران لا يدركون هذه الحقائق والنتائج السلبية لما حدث في العراق على مشروعهم وأمنهم القومي بل وحتى على صورتهم في المنطقة حيث يبدون اليوم قوة محتلة فاسدة. ولا أشك أنهم مدركون، فقد أثبتت إيران دهاء في سياساتها في التعامل مع أوربا والصهيونية على الصعيد الدولي ولا يمكن أن تكون غبية في فهم واقع المنطقة. واذا كان هذا الحال فلماذا سمحت إيران بوصول الأمر في العراق لما آل اليه؟

والجواب على هذا السؤال المهم سيكون في الحلق القادمة ان شاء الله.

 

عبد الحق العاني

20  كانون الأول 2019

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image