نحن العرب: من نحن وإلى أين؟ – الجزء السادس والثلاثون

إلى أين: الدولة العربية الموحدة – النظام السياسي المرجو  – 3

كنت قد انتهيت في الجزء السابق بالسؤال التالي: ما هو النظام السياسي الذي أراه يصلح لنا إذا كنت لا أعتقد أن “ديموقراطية” الأنكلوساكسون ستنفعنا؟

“الناسُ ثلاثةٌ: عالمٌ رَبَّانيٌّ، ومتعلِّمٌ على سبيلِ نجاةٍ، وهمَجٌ رَعاعٌ أتباعُ كلِّ ناعقٍ، يميلونَ مع كلِّ ريحٍ…..” 

وهذا الحديث المتواتر هو ما رواه كميل بن زياد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سيد الحكمة والبلاغة كما جاء في تأريخ دمشق لإبن عساكر. وهو ليس عن العلم في أمور الدين فحسب بل هو ما يجري في كل أمور الحياة. وهو مطابق لقوله تعالى “قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون” (الزمر/9).

ولا شك أن النص يريد أن قلة من الناس علماء أو متعلمون على سبيل النجاة، وأن الأغلبية هم الهمج الرعاع أتباع كل ناعق.

وأنت لا شك لا تتبع “الهمج الرعاع” في أمور تخص اختصاصك أو ساحة عملك أو علمك، فلماذا تتبعهم في اختيار من يحكم الأمة ومن يتحكم بمصيرها؟ وهذا عندي هو السؤال المفصلي في قبول مبدأ “الديموقراطية” التي يراد لها في منطقتنا في وقت هي في الحقيقة لا تطبق في بلدان الذين يدعون ذلك وحين تطبق فهي على الأغلب تقود لكوارث سأعطي أمثلة لها. ذلك أن هؤلاء “الهمج الرعاع” يمكن أن يكونوا ضدك بنفس القدر الذي كانوا فيه معك. وشواهد التأريخ الحديث على ذلك لا تعد. فالحزب الشيوعي السوفياتي الذي اعتقد أن الجماهير هي قاعدة الحزب وأن الطريق الوحيد لبناء النظام الشيوعي هي في حشد أكبر عدد من “الهمج الرعاع” في الحزب اكتشف في أول اختبار عجز ذلك الفكر حين ظهر من الهمج الرعاع من قاد البلد إلى يد أعدائه وكانت تلك الجماهير معه في الحالين. فما أسهل ما مالت تلك الجماهير من “الهمج الرعاع” مع الناعق الرأسمالي الجديد. وحدث الشيء نفسه في منطقتنا حين نقل حزب البعث العربي الإشتراكي فكرة الحزب الجماهيري قاعدة له فانضم “الهمج الرعاع” للحزب طمعا في نصيب، وحين ضعف عطاء القائد انقلبت الجماهير عليه فإذا بها تصفق للغزو الصهيوني في العراق وتخرب المدن وتقتل الناس في سورية!

ولعل أصدق شاهد على خطورة منح “الهمج الرعاع” حق تقرير مصير الأمة ما حدث في العراق وبريطانيا مؤخرا. ففي العراق وضع الغزاة الصهاينة عام 2005 دستورا للعراق “الديموقراطي” وكتبوه بصورة تضمن سلامة هيمنتهم لأمد طويل كما جعلوا في صياغته الدقيقة استحالة تعديله، وهكذا أوجدوا معضلة لا يمكن حلها مما سوف يديم لجيل أو جيلين فشل المشروع السياسي في العراق بالكامل. وكل حديث خارج هذا لا يتجاوز العبث! وقد أمكنهم تحقيق ذلك لأن “الهمج الرعاع” الذين دعموا وهللوا للبعث هم أنفسهم الذين اتبعوا فتوى المرجعية في التصويت على الدستور الصهيوني والذي لا أدري حتى اليوم ما اذا كانت المرجعية قد قرأته واقرته أم أنها أرادت أن تساير الصهيونية حسب. ولا شك أن هذا سوف يثير عددا من أصحابي لكني أرجو أن يردوا علي بعقلانية قبل أن تغلبهم العواطف.

أما في بريطانيا فقد نسي “الهمج الرعاع” أن عضوية بريطاينا في الإتحاد الأوربي منذ عام 1971 هي التي أنقذت البلد من الخراب الإقتصادي المحقق. فتمكنت مجموعة من الإستعماريين البريطانيين، الذين مازالوا يعيشون في القرن التاسع عشر، من بث فكرة خاطئة لكنها سريعة التصديق في أن سبب مشاكل بريطانيا الحالية هي عضويتها في الإتحاد الأوربي وأن الطريق المشرق للمستقبل هو الخروج من الإتحاد والعودة لبريطانيا العظمى التي حكمت العالم. وكل عقل بسيط يعرف فساد هذا القول لكن “الهمج الرعاع” لا يمتلكون المقدرة على فهم حقائق الإقتصاد والتأريخ السياسة المعقدة فانساقوا وراء “الناعق”. وحين وقع الإستفتاء، والذي لا يخضع لقواعد التدبير السياسي المتفق عليه والمتبع في اختيار المرشحين وانتخابهم، كانت النتيجة أن “الهمج الرعاع” صوتوا لصالح قرار كارثي ألقى ببريطانيا في الهاوية، وسوف لن تنجو منها بعد اليوم!

وكلا المثالين شاهد حي على ما فعله النظام “الديموقراطي” الذي يعطي الذين (لا يعلمون) حقا مساويا للذين (يعلمون) في تقرير مصير الأمة! وكلاهما شاهد على أنك لا تحتاج لعناء كثير في توجيه “الهمج الرعاع” لما تريده في أي طريق كارثي إذا سمح الظرف السياسي.

وأكاد أسمع همهمة، بل ربما صراخا، من عدد من المتغربين العرب الذين يتهمونني بأني اسعى لسلب الناس حقهم في التعبير كما يحدث في الغرب “الديموقراطي”. لكن المحزن حقا في قول أولاء هو أنهم ينظرون بعيون مِحْوَلَّة فيرون ما يريدون أن يروه وليس حقيقة ما يحدث! ذلك أن النظام “الديموقراطي” الذي يشيرون اليه هو في واقع الحال نظام استبداد الطبقة الحاكمة والتي تحسن تبادل السلطة في نظام متقن ومصون مع الإبقاء على “الهمج الرعاع” في موضع الشعور الموهوم بالمساهمة الفعلية في السلطة.

وحيث إن أكثر العرب الداعين “للديموقراطية” هم من نتاج الفكر الأنكلوساكسوني، الذي يدعي الدفاع عن الحرية في الوقت الذي يرتكب وقد ارتكب فيه أكبر الفواحش في الغزو والقتل والتخريب والسرقة خلال مائتي عاما محتجا في أن له مصالح في كل الأرض دون أن يقول لنا من أين جاءه ذلك الحق في ادعاء تلك المصالح، فسوف أضرب مثلا عن انعدام الممارسة “الديموقراطية” من قلب لندن.

كنت قد كتبت في أجزاء سابقة كيف تمكنت الطبقة الحاكمة من تثبيت حال يحكم فيه أحد حزبين ليس بينهما ولا في سياستيهما فرق يذكر. وهذا الحال قائم في الولايات المتحدة كما هو في بريطانيا.  وهذا يعني كما اسلفت أن المواطن العادي في اية دائرة انتخابية في بريطانيا لا خيار لديه في من سوف يرشح، وأمامه أن يختار واحدا من اثنين لم يشارك هو باية صورة في وصولهما لمرحلة الترشيح. وقد يهون الأمر لوكان ذلك هو العيب الوحيد في ممارسة الديموقراطية. وحيث إن الإعداد للإنتخابات المتوقعة في العام القادم قد بدأت فإن عملية اختيار المرشحين لكل منطقة تجري الآن داخل كل الأحزاب. وهنا تختبر الديموقراطية في أجلى صورها. ذلك أن اللجنة المحلية لآي حزب لا يحق لها أن تختار مرشحها للإنتخابات إلا اذا وافقت عليه قيادة الحزب وهناك أكثر من مرشح طالب أعضاء الحزب بأغلبية واضحة في منطقته على ترشيحه لكن القيادة رفضت ذلك ومنع من الترشيح. فأين هي الممارسة “الديموقراطية” إذن؟  إذا كان أعضاء الحزب لا يقدرون على ترشيح من يرغبون في أن يمثلهم، وإذا كان الناس لا خيار لهم سوى إختيار واحد من اثنين عين كلا منهم قيادة حزبه فأين هي تلك الممارسة الفاضلة والموصوفة بالديمقراطية؟

إن الحقيقة العملية هي أن الإدعاء بأن الشعب يمارس حقه في الإختيار هي واحدة من أكبر الأكاذيب التي سوقتها الرأسالية الصهيونية لقرن من الزمن وغسلت بها عقول الناس من أهلها ومن خارجهم ممن اعتقد أنها واقعة وأن الناس يتمتعون بحق الإختيار حقاً.

إن الديموقراطية في بريطانيا، وهي المثل الأعلى لأكثر العرب المنادين بها، ليست سوى استبداد الطبقة الحاكمة، في عملية توزيع أدوار وتبادل سلطة ما بين أعضائها. وحين تتمكن الطبقة الحاكمة من هذا الإستحواذ والهيمنة فإن حرية الكلمة والتعبير تمنح لأنها متنفس للرافضين في التعبير عن رفضهم وهي ليست كما يعتقد من يخدع نفسه في أنها حرية غير مقيدة. فاذا وجدت الطبقة الحاكمة أنها غير مرتاحة لحال ما، شرعت قانونا باسم “الديموقراطية” فيصبح مقبولا مثلا أن يعاقب بالسجن بتهمة دعم الإرهاب من كتب مقالا أو صرح بأنه يدافع عن حزب سياسي أو حركة في مكان آخر في العالم. وهذا إجراء لا يختلف كثيرا عما يفعله أي نظام مستبد في العالم “النامي” إلا أن المعتذرين للديموقراطية الأنكلوساكسونية يميزون بين الإثنين، وليتهم أعلمونا لماذا وكيف!

فما الطريق للوصول الى الصيغة الأفضل للحكم إذن؟

 

للحديث صلة…..

عبد الحق العاني

لندن في  20 حزيران 2023

اترك تعليقاً


CAPTCHA Image
Reload Image